أذهبُ، أترك خلفي عناوين قابلةً للضياعْ.
وأنتظر العائدين، وهم يعرفون مواعيد موتي ويأتون.
أنتِ التي لا أُحبُّك حين أُحبًّك، أسوارُ بابل
ضيِّقَةٌ في النهار، وعيناك واسعتان، ووجهك
منتشر في الشعاع.
كأنكِ لم تولدي بعد. لم نفترق بعد. لم تصرعيني.
وفوق سطوح الزوابع كل ُّكلام جميل، وكلُّ
لقاء وداع.
وما بيننا غيرُ هذا اللقاء، وما بيننا غير هذا الوداع.
أُحبُّك، أو لا أحبُّك –
يهرب مني جبيني، وأشعر أنك لا شيء أو كل شيء
وأنك قابلة للضياع.
أُريدكِ، أو أُريدكِ –
إنَّ خرير الجداول محترقٌ بدمي. ذات يوم أراك،
وأذهب.
وحاولتُ أن أستعيد صداقةَ أشياء غابت – نجحت
وحاولت أن أتباهى بعينين تتسعان لكل خريف –
نجحت – وحاولتُ أن أرسم اسماً يلائم زيتونةًً
حول خاصرةٍ – فتناسَلَ كوكبْ.
أُريدك حين أقول أنا لا أُريدك...
وجهي تساقط. نهرٌ بعيدٌ يذوبُ جسمي. وفي السوق
باعوا دمي كالحساء المعلَّب.
أُريدك، حين أقول أُريدك-
يا امرأة وَضَعَتْ ساحل البحر الأبيض المتوسط في
حضنها... وبساتين آسيا على كتفيها... وكلَّ
السلاسل في قلبها.
أُريدك، أو لا أُريدك –
إنَّ خرير الجداول. إنَّ حفيف الصنوبر. إنَّ هدير
البحار. وريشَ البلابل محترقٌ في دمي – ذات
يوم أراك، وأذهب.
أُغنّيك، أو لا أُغنيك –
أسكتُ. أصرخُ. لا موعد للصراخ ولا موعد
للسكوت. وأنتِ الصراخ الوحيدُ وأنتِ السكوت
الوحيدْ.
تداخل جلدي بحنجرتي. تحت نافذتي تعبر الريح
لابسةً حَرَساً. والظلامُ بلا موعد. حين ينزل
عن راحتيَّ الجنودْ
سأكتبُ شيئاً...
وحين سينزل عن قدميَّ الجنود
سأمشي قليلاً...
وحين سيسقط عن ناظريِّ الجنود
أراك... أرى قامتي من جديد.
أُغنّيك، أو لا أُغنّيك
أنت الغناء الوحيد، وأنت تُغنيّنني لو سكتُّ. وأنت
السكوتُ الوحيد.
-2-
في الأيام الحاضرة
أجد نفسي يابساً
كالشجر الطالع من الكتب
والريح مسألة عابرة.
أُحارب... أو لا أُحارب؟
ليس هذا هو السؤال
المهمّ أن تكون حنجرتي قويَّة.
أعمل... أو لا أعمل؟.
ليس هذا هو السؤال
المهمّ أن أرتاح ثمانية أيام في الأسبوع
حسب توقيت فلسطين.
أيها الوطن المتكرر في الأغاني والمذابح،
دُلِّني على مصدر الموت
أهو الخنجر... أم الأكذوبة؟
لكني أذكر أن لي سقفاً مفقوداً
ينبغي أن أجلس في العراء.
ولكيلا أنسى نسيم بلادي النقي
ينبغي أن أتنفس السل
ولكي أذكر الغزال السابح في البياض
ينبغي أن أكون معتقلاً بالذكريات.
ولكيلا أنسى أن جبالي عالية
ينبغي أن أُسرِّح العاصفة من جبيني.
ولكي أُحافظ على ملكية سمائي البعيدة
يجب ألاّ أملك حتى جلدي.
أيها الوطن المتكرر في المذابح والأغاني
لماذا أُهرِّبك من مطار إلى مطار
كالأفيون...
والحبر الأبيض...
وجهاز الإرسال؟!
أُريد أن أرسم شكلك.
أيها المبعثر في الملفات والمفاجآت
أُريد أن أرسم شكلك
أيها المتطاير على شظايا القذائف وأجنحة العصافير
أريد أن أرسم شكلك
فتخطف السماءُ يدي.
أريد أن أرسم شكلك
أيها المحاصر بين الريح والخنجر
كي أجد شكلي فيك
فأُتَّهم بالتجريد وتزوير الوثائق والصور الشمسية
أيها المحاصر بين الخنجر والريح.
ويا أيها الوطن المتكرر في الأغاني والمذابح
كيف تتحول إلى حلم وتسرق الدهشة
لتتركني حجراً.
لعلَّك أجمل في صيرورتك حلماً
لعلَّك أجمل!...
لم يبق في تاريخ العرب
اسم أستعيره
لأتسلَّل به إلى نوافذك السريَّة.
كل الأسماء السرية محتجزة
في مكاتب التجنيد المكيَّفة الهواء
فهل تقبل اسمي –
اسمي السري الوحيد –
محمود درويش؟
أما اسمي الأصلي
فقد انتزعته عن لحمي
سياطُ الشرطة وصنوبرُ الكرمل
أيها الوطن المتكرر في المذابح والأغاني
دُلَّني على مصدر الموت
أهو الخنجر
أم الأكذوبة؟!
-3-
يومَ كانتْ كلماتي
تربةً...
كنتَ صديقاً للسنابلْ.
يومَ كانت كلماتي
غضباً...
كنت صديقاً للسلاسل
يوم كانات كلماتي
حجراً...
كنتُ صديقاً للجداول.
يومَ كانت كلماتي
ثورةً...
كنت صديقاً للزلازل
يوم كانت كلماتي
حنظلاً...
كنتُ صديقَ المتفائل
حين صارت كلماتي
عسلاً...
غطَّى الذباب
شفتيَّ!...
-4-
تركت وجهي على منديل أُمّي
وحملت الجبال في ذاكرتي
ورحَلْت...
كانت المدينة تكسر أبوابها
وتتكاثر فوق سطوح السفن
كما تتكاثر الخضرة في البساتين التي تبتعد...
إنني أتَّكئ على الريح
يا أيتها القامة التي لا تنكسر
لماذا أترنَّح؟ ... وأنت جداري
وتصقلني المسافة
كما يصقل الموتُ الطازج وجوهَ العُشّاق
وكلما ازددتُ اقتراباً من المزامير
ازددتُ نُحولاً...
يا أيتها الممرات المحتشدة بالفراغ
متى أصل؟...
طوبى لمن يلتفُّ بجلده!
طوبى لمن يَتذكَّر اسمه الأصليَّ بلا أخطاء!
طوبى لمن يأكل تفاحة ولا يصبح شجرة.
طوبى لمن يشرب من مياه الأنهار البعيدة
ولا يصبح غيماً!
طوبى للصخرة التي تعشق عبوديتها
ولا تختار حرية الريح!.
-5-
اكلما وقفتْ غيمه على حائط
تطايرت إليها جبهتي كالنافذة المكسورة
ونسيت أني مرصود بالنسيان
وفقدت هويتي؟
إنني قابل للانفجار
كالبكارة...
وكيف تتَّسع عيناي لمزيد من وجوه الأنبياء؟
اتبعيني أيتها البحار التي تسأم لونها
لأدلك على عصا أخرى.
إنني قابل للأعجوبة
كالشرق...
أنا حالة تفقد حالتها
حين تكفُّ عن الصراخ
هل تسمّون الرعد رعداً والبرق برقاً
إذا تحجَّر الصوت، وهاجر اللون؟!
اكلما خرجتُ من جِلدي.
ومن شيخوخة المكان
تناسل الظلُّ، وغطّاني...؟
اكلما أطلقتُ رياحي في الرماد
بحثاً عن جمرة منسيَّة
لا أجد غير وجهي القديم الذي تركته
على منديل أُمي؟
إنني قابلٌ للموت
كالصاعقة...
-6-
أشجار بلادي تحترف الخضرة
وأنا أحترف الذكرى.
والصوت الضائع في البرية
ينعطف نحو السماء، ويركع:
أيها الغيم! هل تعود؟
لستُ حزيناً إلى هذا الحدّ
ولكن، لا يحبُّ العصافير
من لا يعرف الشجر.
ولا يعرف المفاجأة
من اعتاد الأكذوبة.
لستُ حزيناً إلى هذا الحد
ولكن، لا يعرف الكذب
من لم يعرف الخوف.
أنا لستُ منكمشاً إلى هذا الحد
ولكن الأشجار هي العالية.
سيداتي، آنساتي، سادتي
أنا أحبُّ العصافير
وأعرف الشجر
أنا أعرف المفاجأة
لأني لم أعرف الأكذوبة.
أنا ساطع كالحقيقة والخنجر
ولهذا أسألكم:
أطلقوا النار على العصافير
لكي أصِفَ الشجر.
أوقفوا النيل
لكي أصف القاهرة.
أوقفوا دجلة أو الفرات أو كليهما
لكي أصف بغداد.
أوقفوا بردى
لكي أصف دمشق!
وأوقفوني عن الكلام
لكي أصف نفسي...
-7-
ظلُّ النخيل، وآخرُ الشهداء، والمذياع يرسل صورةً
صوتيةً عن حالة الأحباب يومياً، أُحبُّك في
الخريف وفي الشتاءْ.
- لم تبك حيفا. أنت تبكي. نحن لا ننسى تفاصيل
المدينة, كانت امرأةً، وكانت أنبياءْ.
البحرُ! لا. البحرُ لم يدخل منازلنا بهذا الشكل.
خمسُ نوافذٍ غرقتْ، ولكنَّ السطوح تعجُّ
بالعشب المجفَّف والسماءْ -
ودَّعتُ سجّاني. سعيداً كان بالحرب الرخيصة.
آه يا وطن القرنفل والمسدّس، لم تكن أُمّي معي.
وذهبتُ أبحث عنك خلف الوقت والمذياع. شكلك
كان يكسرني... ويتركني هباءْ.
كان الكلام خطيئةً، والصمت منفى. والفدائيون
أسرى توقهم للموت في واديك. كان الموت تذكرة
الدخول إلى يديك. وكنتً تحتقر البكاءْ.
والذكرياتُ هويةً الغرباء أحياناً، ولكن الزمان
يضاجع الذكرى وينجب لاجئين، ويرحل
الماضي، ويتركهم بلا ذكرى. أتذكرنا؟ وماذا
لو تقول: بلى! أ نذكر كل شيئ عنك؟ ماذا
لو نقول: بلى!... وفي الدنيا قضاةُ يعبدون الأقوياءْ.
من كل نافذةٍ رميتُ الذكريات كقشرة البطيخ,
واستلقيتُ في الشَّفَق المحاذي للصنوبر (تلمع
الأمطار في بلد بعيد. تقطف الفتياتُ خوخاً غامضاً...)
والذكرياتُ تمرُّ مثل البرق في لحمي، وترجعني
إليك... إليك. إنَّ الموت مثل الذكريات كلاهما
يمشي إليك... إليك، يا وطناً تأرجح بين كلِّ
خناجر الدنيا وخاصرةِ السماءْ.
ظلّ النخيل، وآخر الشهداء والمذياع يرسل صورة
صوتية عن حالة الأحباب يومياً – أحبك في
الخريف وفي الشتاءْ.
-8-
حالة الاحتضار الطويلة
أرجعتني إلى شارع في ضواحي الطفولةْ
أدخلتني بيوتاً
قلوباً
سنابل
منحتني هويَّه
جعلتني قضيَّه
حالةُ الاحتضار الطويلةْ.
كان يبدو لهم
أنني ميّت، والجريمةُ مرهونةٌ بالأغاني
فمرُّوا، ولم يلفظوا اسمي.
دفنوا جثتي في الملفّات والانقلابات،
وابتعدوا.
(والبلاد التي كنتُ أحلم فيها – سوف
تبقى البلاد التي كنتُ أحلم فيها).
كان عمراً قصيراً
وموتاً طويلا
وأفقتُ قليلا
وكتبتُ اسم أرضي على جُثَّتي
وعلى بندقيَّةْ
قلت: هذا سبيلي
وهذا دليلي
إلى المدن الساحليَّةْ.
وتحركتُ،
لكنهم قتلوني.
دفنوا جثتي في الملفات والانقلابات وابتعدوا.
(والبلاد التي كنتُ أحلم فيها –
سوف تبقى البلاد التي كنتُ أحلم فيها).
أنا في حالة الاحتضار الطويلةْ
سيِّد الحزن.
والدمع من كل عاشقة عربيَّة
وتكاثر حولي المغنّون والخطباء
وعلى جثتي ينبتُ الشعر والزعماء
وكل سماسرة اللغة الوطنيَّة
صفَّقوا
صفَّقوا
صفَّقوا
ولتعشْ
حالة الاحتضار الطويلةْ
حالةُ الاحتضار الطويلةْ
أرجعتني إلى شارع في ضواحي الطفولة
أدخلتني بيوتاُ... قلوباً... سنابل
جعلتني قضيَّة
منحتني هويَّة
وتراثَ السلاسل.
-9-
إني أتأهَّب للانفجار
على حافة الحلم
كما تتأهب الآبار اليابسة
للفيضان.
إني أتأهَّب للانطلاق
على حافة الحلم
كما تتأهب الحجارة
في أعماق المناجم الميتة
إني أتحفَّز للموت
على حافة الحلم
كما يتحفز الشهيد للموت
مرة أُخرى.
إني أتأهَّب للصراخ
على حافة الحقيقة
كما يتأهَّب البركان
للانفجار.
-10-
الرحيل انتهى
من يغطّي حبيبي
كيف مرَّ المساء المفاجئ
كيف اختفى
في عيون حبيبي؟
الرحيل انتهى.
أصدقائي يمرون عني.
أصدقائي يموتون فجأة
الرحيل انتهى
في جناح السنونو.
الرحيل ابتدأ
حين فرَّ السجين.
ما عرفتُ الضياع
في صرير السلاسل
كان لحمي مشاع
كسطوح المنازل
لعدوّي ، ولكن
ما عرفت الضياع
في صرير السلاسل
أصدقائي يمرّون عني
أصدقائي يموتون فجأة.
-11-
أداعب الزمن
كأمير يلاطف حصاناً.
وألعبُ بالأيام
كما يلعب الأطفال بالخرز الملوَّن.
إني أحتفل اليوم
بمرور يوم على اليوم السابق
وأحتفل غداً
بمرور يومين على الأمس
وأشرب نخب الأمس
ذكرى اليوم القادم
وهكذا... أُواصل حياتي!
عندما سقطتُ عن ظهر حصاني الجامح
وانكسرت ذراعي
أوجعتني إصبعي التي جرحت
قبل ألف سنة!
وعندما أحييت ذكرى الأربعين لمدينة عكا
أجهشت في البكاء على غرناطة
وعندما التفَّ حبل المشنقة حول عنقي
كرهت أعدائي كثيراً
لأنهم سرقوا ربطة عنقي!
-12-
نرسم القدس :
صليب واقف في الشارع الخلفيَ. شيء يشبه البرقوق
والدهشة من خلف القناطرْ
وفضاء واسع يمتدُّ من عورة جنديّ إلى تاريخ شاعر.
نكتبُ القدس :
عاصمة الأمل الكاذب... الثائر الهارب... الكوكب
الغائب. اختلطتْ في أزقَّتها الكلماتُ الغريبةُ،
وانفصلتْ عن شفاه المغنّين والباعةِ القُبَلُ السابقةْ.
قام فيها جدار جديد لشوق جديد، وطروادةُ
التحقتْ بالسبايا. ولم تَقُل الصخرةُ الناطقةْ
لفظةً تُثبِتُُ العكس. طوبى لمن يجهضُ النار في الصاعقةْ!.
ونغني القدسَ :
يا أطفالَ بابلْ
يا مواليد السلاسلْ
ستعودون إلى القدس قريباً
وقريباً تكبرون.
وقريباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضي
قريباً يصبح الدمع سنابل.
آه، يا أطفال بابل
ستعودون إلى القدس قريباً
وقريباً تكبرونً.
وقريباً
وقريباً...
هلّلو يا
هلّلو يا!